فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)}.
عود إلى نشر ما وقع لفُّه في قوله: {وكنتم أزواجًا ثلاثة} [الواقعة: 7] كما تقدم عند قوله: {فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة} [الواقعة: 8].
وعبر عنهم هنا بـ {أصحاب اليمين} وهنالك بـ {أصحاب الميمنة} للتفنن.
فجملة {وأصحاب اليمين} عطف على جملة {أولئك المقربون} [الواقعة: 8] عطف القصة على القصة.
وجملة {ما أصحاب اليمين} خبر عن {أصحاب اليمين} بإبهام يفيد التنويه بهم كما تقدم في قوله: {فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة} [الواقعة: 8].
وأتبع هذا الإِبهام بما يبين بعضه بقوله: {في سدر مخضود} إلخ.
والسدر: شجر من شجر العِضاه ذو ورق عريض مدوَّر وهو صنفان: عُبْرِي بضم العين وسكون الموحدة وياء نسب نسبة إلى العِبر بكسر العين وسكون الموحدة على غير قياس وهو عِبر النهي، أي ضفته، له شوك ضعيف في غصونه لا يضير.
والصنف الثاني الضَّالُ (بضاد ساقطة ولام مخففة) وهو ذُو شوك.
وأجود السدر الذي ينبت على الماء وهو يشبه شجر العُناب، وورقه كورق العناب وورقه يجعل غسولًا ينظف به، يخرج مع الماء رغوة كالصابون.
وثمر هذا الصنف هو النبق بفتح النون وكسر الموحدة وقاف يشبه ثمر العناب إلا أنه أصفر مُزّ (بالزاي) يفوح الفم ويفوح الثياب ويتفكه به، وأما الضال وهو السدر البري الذي لا ينبت على الماء فلا يصلح ورقه للغسول وثمره عَفِصٌ لا يسوغ في الحلق ولا ينتفع به ويخبِط الرعاةُ ورقه للراعية، وأجود ثمر السدر ثمر سدر هَجَر أشد نَبِق حلاوة وأطيبه رائحة.
ولما كان السدر من شجر البادية وكان محبوبًا للعرب ولم يكونوا مستطيعين أن يجعلوا منه في جناتهم وحوائطهم لأنه لا يعيش إلا في البادية فلا ينبت في جناتهم خص بالذكر من بين شجر الجنة إغرابًا به وبمحاسنه التي كان محرومًا منها من لا يسكن البوادي وبوفرة ظله وتهدل أغصانه ونكهة ثمره.
ووصف بالمخضود، أي المزال شوكه فقد كملت محاسنه بانتفاء ما فيه من أذًى.
والطلح: شجر من شجر العضاه واحدهُ طلحة، وهو من شجر الحجاز ينبت في بطون الأودية، شديد الطُّول، غليظ الساق.
من أصلب شجر العِضاه عُودًا، وأغصانه طوال عظام شديدة الارتفاع في الجو ولها شوك كثير قليلةُ الورق شديدة الخُضرة كثيرة الظل من التفاف أغصانها، وصمغها جيّد وشوكها أقل الشوك أذًى، ولها نَور طيب الرائحة، وتسمى هذه الشجرة أمّ غَيلان، وتسمى في صفاقس غيلان وفي أحواز تونس تسمى مِسْكَ صَنادِق.
والمنضود: المتراصّ المتراكب بالأغصان ليست له سوق بارزة، أو المنضد بالحمل، أي النُوَّار فتكثر رائحته.
وعلى ظاهر هذا اللفظ يكون القول في البشارة لأصحاب اليمين بالطلح على نحو ما قرر في قوله: {في سدر مخضود} ويعتاض عن نعمة نكهة ثمر السدر بنعمة عَرْف نَوْر الطلح.
وفُسر الطلح بشجر الموز روي ذلك عن ابن عباس وابن كثير، ونسب إلى علي بن أبي طالب.
والامتنان به على هذا التفسير امتنان بثمره لأنه ثمر طيب لذيد ولشجره من حسن المنظر، ولم يكن شائعًا في بلاد العرب لاحتياجه إلى كثرة الماء.
والظل الممدود: الذي لا يتقلص كظل الدنيا، وهو ظل حاصل من التفاف أشجار الجنة وكثرة أوراقها.
وسَكْب الماء: صبّه، وأطلق هنا على جريه بقوة يشبه السَّكْب وهو ماء أنهار الجنة.
والفاكهة: تقدمت آنفًا.
ووصفت بـ {لا مقطوعة ولا ممنوعة} وصفًا بانتفاء ضد المطلوب إذ المطلوب أنها دائمة مبذولة لهم.
والنفي هنا أوقع من الإثبات لأنه بمنزلة وصففٍ وتوكيده، وهم لا يصفون بالنفي إلا مع التكرير بالعطف كقوله تعالى: {زيتونة لا شَرقِيَّة ولا غربية} [النور: 35].
وفي حديث أم زرع: «قالت المرأة الرابعة: زوجي كلَيل تِهامة لاَ حَرّ ولا قُرٌّ ولا مَخافةٌ ولا سآمةٌ».
ثم تارة يقصد به إثبات حالة وسطى بين حالي الوصفين المنفيين كما في قول أم زرع: «لا حَرّ ولا قَرّ»، وفي: {لا شرقية ولا غربية} [النور: 35] وهذا هو الغالب وتارة يقصد به نفي الحالين لإثبات ضديهما كما في قوله: {لا مقطوعة ولا ممنوعة} وقوله الآتي: {لا بارد ولا كريم} [الواقعة: 44]، وقول المرأة الرابعة في حديث أمّ زرع: «ولا مخافة ولا سآمة».
وجمع بين الوصفين لأن فاكهة الدنيا لا تخلو من أحد ضدي هذين الوصفين فإن أصحابها يمنعونها فإن لم يمنعوها فإن لها إبانًا تنقطع فيه.
والفُرش: جمع فِراش بكسر الفاء وهو ما يفرش وتقدم في سورة الرحمن.
و {مرفوعة}: وصف لـ: {فرش}، أي مرفوعة على الأسرة، أي ليست مفروشة في الأرض.
ويجوز أن يراد بالفُرُش الأسرّة من تسمية الشيء باسم ما يحل فيه.
{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35)}.
لما جرى ذكر الفُرش وهي مما يعد للاتكاء والاضطجاع وقت الراحة في المنزل يخطر بالبال بادىء ذي بدء مصاحبة الحُور العين معهم في تلك الفرش فيتشوف إلى وصفهن، فكانت جملة: {إنا أنشأناهن إنشاءً} بيانًا لأن الخاطر بمنزلة السؤال عن صفات الرفيقات.
فضمير المؤنث من {أنشأناهن} عائد إلى غير مذكور في الكلام ولكنه ملحوظ في الأفهام كقول أبي تمام في طالع قصيدة:
هُنّ عوادي يوسفٍ وصواحبه

ومنه قوله تعالى: {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32].
وهذا أحسن وجه في تفسير الآية، فيكون لفظ {فرش} [الواقعة: 34] في الآية مستعملًا في معنييه ويكون {مرفوعة} [الواقعة: 34] مستعملًا في حقيقته ومجازه، أي في الرفع الحسي والرفع المعنوي.
والإِنشاء: الخَلق والإِيجاد فيشمل إعادة ما كان موجودًا وعُدم، فقد سمّى الله الإِعادة إنشاء في قوله تعالى: {ثم الله ينشىء النشأة الآخرة} [العنكبوت: 20] فيدخل نساء المؤمنين اللاءِ كُنّ في الدنيا أزواجًا لمن صاروا إلى الجنة ويشمل إيجادَ نساء أُنُفًا يُخلقن في الجنة لنعيم أهلها.
وقوله: {فجعلناهن أبكارًا} شامل للصنفين.
والعُرُب: جمع عَروب بفتح العين، ويقال: عَرِبه بفتح فكسر فيجمع على عَرِبات كذلك، وهو اسم خاص بالمرأة.
وقد اختلفت أقوال أهل اللغة في تفسيره.
وأحسن ما يجمعها أن العَروب: المرأة المتحببة إلى الرجل، أو التي لها كيفية المتحببة، وإن لم تقصد التحبّب، بأن تكثر الضحك بمرأى الرجل أو المزاحَ أو اللهو أو الخضوع في القول أو اللثغ في الكلام بدون علة أو التغزل في الرجل والمساهلة في مجالسته والتدلل وإظهار معاكسة أميال الرجل لعِبًا لا جِدًّا وإظهار أذاه كذلك كالمغاضبة من غير غصب بل للتورك على الرجل، قال نبيه بن الحجاج:
تلك عريسي غضبى تريد زيالي...
أَلَبيْنٍ أردتتِ أم لدلال الشاهد في قوله: أم لدلال، قال تعالى: {فلا تَخْضَعْن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفًا} [الأحزاب: 32]، وقال: {ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يُخفِين من زينتهن} [النور: 31].
وإنما فسروها بالمتحببة لأنهم لما رأوا هاته الأعمال تجلب محبة الرجل للمرأة ظنوا أن المرأة تفعلها لاكتساب محبة الرجل.
ولذلك فسر بعضهم: العَروب بأنها المغتلمة، وإنما تلك حالة من أحوال بعض العروب.
وعن عكرمة العروب: الملِقة.
والعروب: اسم لهذه المعاني مجتمعة أو مفترقة أجرَوْه مجرى الأسماء الدالة على الأوصاف دون المشتقة من الأفعال فلذلك لم يذكروا له فعلًا ولا مصدرًا وهو في الأصل مأخوذ من الإِعراب والتعريب وهو التكلم بالكلام الفحش.
والعِرابة: بكسر العين: اسم من التعريب وفعله: عَرَّبت وأعربتْ، فهو مما يسند إلى ضمير المرأة غالبًا.
كأنهم اعتبروه إفصاحًا عما شأنه أن لا يفصح عنه ثم تنوسي هذا الأخذ فعومل العَروب معاملة الأسماء غير المشتقة، ويقال: عَرِبَة مثل عروب وجمع العَروب عُرُب وجمع عَرِبة عَرِبات ويقال للعروب بلغة أهل مكة العَرِبة والشَّكِلَةُ ويقال لها بلغة أهل المدينة: الغَنجَة وبلغة العراق: الشّكِلة، أي ذات الشَّكَل بفتح الكاف وهو الدلال والتعرُّبُ.
والأَتراب: جمع تِرْب بكسر المثناة الفوقية وسكون الراء وهي المرأة التي ساوى سنها سنّ من تضاف هي إليه من النساء، وقد قيل: إن الترب خاص بالمرأة، وأما المساوي في السن من الرجال فيقال له: قرن ولدة.
فالمعنى: أنهن جُعلن في سن متساوية لا تفاوت بينهن، أي هن في سن الشباب المستوي فتكون محاسنهن غير متفاوتة في جميع جهات الحُسن، وعلى هذا فنساء الجنة هن الموصوفات بأنهن {أتراب} بعضهن لبعض.
وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم وخلفُ {عرْبا} بسكون الراء سكون تخفيف وهو ملتزم في لغة تميم في هذا اللفظ.
واللام في {لأصحاب اليمين} يتنازعها {أنشأناهن} و{جعلناهن} لإِفادة توكيد الاعتناء بأصحاب اليمين المستفاد من المقام من قوله: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين} [الواقعة: 27] الآية.
واعلم أن ما أعطي لأصحاب اليمين ليس مخالفًا لأنواع ما أعطي للسابقين ولا أن ما أعطي للسابقين مخالف لما أعطي أصحاب اليمين فإن الظل والماء المسكوب وكون أزواجهم عُربًا أترابًا لم يذكر مثله للسابقين وهو ثابت لهم لا محالة إذ لا يَقْصرون عن أصحاب اليمين، وكذلك ما ذكر للسابقين من الولدان وأكوابِهم وأباريقهم ولحم الطير وكون أزواجهم حورًا عينًا وأنهم لا يسمعون إلا قيلًا سلامًا سلامًا، لم يذكر مثله لأصحاب اليمين مع أن لأهل الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
وقد ذكر في آيات كثيرة أنهم أعطوا أشياء لم يذكر إعطاؤها لهم في هذه الآية مثل قوله: {وتحيتهم فيها سلام} [يونس: 10]، فليس المقصود توزيع النعيم ولا قصره ولكن المقصود تعداده والتشويق إليه مع أنه قد علم أن السابقين أعلى مقامًا من أصحاب اليمين بمقتضى السياق.
وقد أشار إلى تفاوت المقامين أنه ذكر في نعيم السابقين أنه جزاء بما كانوا يعملون للوجه الذي بيناه فيها ولم يذكر مثله في نعيم أصحاب اليمين وجُماع الغرض من ذلك التنويه بكلا الفريقين.
{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} أي أصحاب اليمين: {ثلة من الأولين وثلة من الآخرين}، والكلام فيه كالكلام في قوله: {ثلة من الأولين وقليل من الآخرين} [الواقعة: 13، 14] فاذكره.
وفي (تفسير القرطبي) عن أبي بكر الصديق: أن كلتا الثلتين من الأمة المحمدية ثلة من صدرها وثلة من بقيتها ولم ينبه على سند هذا النقل.